غاب الإيقاع السريع والحماس والبريق، الذي عودتنا عليه التفاحة الكبرى، بكل ما يتضمنه من جلبة وازدحام خارج «براينت بارك»، حيث يجري في العادة أسبوع الموضة النيويوركي.
ازدحام طالما أثار الريبة، فيما إذا كان سببه انتظار وصول النجوم والنجمات والشخصيات المهمة، أم فعلا رغبة في حضور عروض الأزياء.
كل هذا غاب، حتى النجوم شحت، وخيم في المقابل هدوء غير معهود، الأمر الذي انعكس حتى على طبيعة العروض التي ستقتصر الحركة والمشي في بعضها على الحضور، الذين عليهم الدوران حول عارضات منتصبات القامة، إما واقفات أو جالسات، مؤكدات هذه المرة صدق ما كنّ يُنعتن به سابقا من أنهن مجرد شماعات.
بوادر هذا الهدوء المفروض على المصممين، بسبب قلة الحيلة والظروف الاقتصادية الحالية، بدأت منذ أشهر، رغم محاولات إنكارها تجنبا لخلق حالة من عدم الثقة في نفوس المشترين، لكن على ما يبدو باءت هذه المحاولات بالفشل، والثقة مفقودة حاليا.
ومن باب الاعتراف بحقيقة الوضع عمد معظم المصممين إلى توزيع بطاقات الدعوة على الضيوف في أظرفة باللون الأسود، وهذا وحده يكفي لتلخيص مشاعر الإحباط التي يعانون منها، والتي أصابت صناعة الموضة في الصميم.
ورغم أن نيويورك ليست أهم عاصمة موضة من ناحية الابتكار والإبداع، فإن المتعارف عليه أنها الأكثر إتقانا لفنون التسويق، بمعنى أنها تعرف تماما ما يريده السوق وتلبيه، وهنا تكمن مشكلتها.
فكيف يتأتى لها التسويق حاليا في أجواء تسودها أزمة مالية عاصفة ويعزف فيها المستهلك عن الشراء؟
عاصمة تسويق ولا تستطيع أن تسوق، وهذا أرسل قشعريرة باردة في شرايينها، مما دفع عمدة نيويورك، مايكل بلومبورغ، إلى أن يتدخل شخصيا في محاولة لضخ ولو بصيص من الأمل فيها، بتوقيعه عقدا لمدة خمس سنوات يبدأ في عام 2010 لتحويل كل عروض الأزياء إلى مركز لنكولن عوضا عن «براينت بارك» القريب من «تايمز سكوير»، والذي احتضن هذه الفعالية على مدى 15 سنة على التوالي.
والسبب أن مركز لنكولن أكبر بنسبة 25% من الثاني، ويناسب الظروف الاقتصادية الحالية وإمكانيات المصممين المبتدئين، لأنه يضم قاعات يمكن أن ينظموا فيها معارض أزياء لا تكلف كثيرا مقارنة بالعروض، من منطلق أنها لا تحتاج إلى إخراج وتحضيرات كثيرة وما شابه من أمور لا تستغني عنها العروض المهمة.
فهنا تقف العارضات متسمرات في أماكنهن، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة أن يكنّ متمرسات على المشي، بينما يدور الحضور حولهن لمعاينة التصميم والتفاصيل والتقاط الصور، تماما كما لو كان العرض معرضا فوتوغرافيا.
لكن مع ذلك لم تنجح محاولة العمدة في طمأنة النفوس وضخ جرعة التفاؤل التي كان يأملها منها، لا سيما أن مخاوف زبائن المنتجات المترفة، وكما تبين أرقام المبيعات، عازفون عن الشراء إلى أجل غير مسمى.
والمصيبة أن عدم الثقة هذه لم تقتصر نتائجها على تراجع المبيعات وإلحاق الخسائر بصناعة تقدر بـ350 مليار دولار، وفقا لمجلس مصممي الأزياء في أميركا، وتشغل آلاف الموظفين، بل أدت إلى إغلاق محلات وتسريح آلاف الموظفين.
فبعد شركة «فورتنوف» للمجوهرات التي أقفلت أبوابها مؤخرا، أعلنت شركة «إيستي لودر» تسريح 2000 موظف، و«مايسيس» 7000، و«نيمان ماركوس» 375، و«ساكس فيفث أفينيو» 1,100، والبقية تأتي، كما يتنبأ بعض المتشائمين.
والتوقعات التي تدور حاليا أن كل عواصم الموضة العالمية ستمر بنفس المشكلة، وإنّ غدا لناظره قريب، فبعد نيويورك ستمر الرحلة بلندن ثم بميلانو قبل أن تنتهي بباريس في 12 من الشهر المقبل.
وهذا له معنى واحد، وهو أننا يمكن أن نتوقع إبداعا لكن من الصعب توقع عروض مبهرة أو إخراج يجنح للخيال؛ لما يتطلبه من تكاليف لم تعد متوفرة بالنسبة للصغار، و لا تعطي مردودا بالنسبة للمجموعات الكبيرة، وهو الأمر الذي يبدو متناقضا.
ففي هذا الوقت بالذات نحتاج إلى بعض الحلم والفانتازيا والابتعاد عن أرض الواقع، خصوصا أن هذا أهم عنصر تقوم عليه الموضة، لكن في المقابل سنرى للأسف الكثير من التقشف والواقعية، وبالتالي سنكون جد محظوظين لو حصلنا من أي من العواصم العالمية هذا الشهر على أزياء يشطح فيها الخيال وتدغدغ الحواس، رغم تطمينات المصممين بأن التقشف سيطال إخراج العروض وليس الأزياء، على أساس أن الأزمة أزمة ائتمان ومال وليست أزمة إبداع، كما يقولون.
لكن يبقى المؤكد حتى الآن أن أغلبية المصممين أعلنوا سياسة شد الحزام، بمن فيهم مدلل نيويورك مارك جايكوبس، الذي دعا حفنة قليلة من الضيوف إلى عرضه، 700 شخص فقط مقارنة بـ2000 كان عدد الحضور في السنوات الماضية، بينما استبدلت كل من دونا كاران، وبيتسي جونسون، وفيرا وانغ، ومونيك لويلر، وكارمن مارك فالفو، وغيرها، العروض الباذخة بعروض أشبه بالمعارض الصغيرة في أماكن حميمة، تقف فيها العارضات عوض أن يختلن على المنصات، الأمر الذي يعطي الأزياء بعدا أجمل ووسائل الإعلام صورا فيها حياة.
دونا كاران، مثلا، ستعرض في استوديوهات زوجها الراحل ستيفن ويس في «غرينيتش أفينيو»، وكالفن كلاين في محله الخاص، بتنظيم عدة عروض في أوقات متفرقة حتى يتمكن من عرضها أمام أكبر عدد من وسائل الإعلام والمشترين.
وفيرا وانغ أيضا في استوديوهاتها، وطبعا تم إلغاء معظم الحفلات المعهودة. ولأن الحاجة أم الاختراع فقد انبثقت مخيلة مخرجة العروض كيلي كوترون على تشجيع ثلاثة مصممين صاعدين، هم نيكولاس كي، وسيرجيو دافيلا، ومارا هوفمان، على تكثيف جهودهم والعرض بعضهم مع بعض تحت سقف واحد، حتى يتمكنوا من اقتسام تكاليف المكان، مع استعمال نفس العارضات وخبراء الماكياج وتصفيف الشعر، لكن طبعا كل منهم سيعرض تشكيلته الخاصة تحت اسمه.
ومع هذا فإن العروض مستمرة إلى نهاية الأسبوع المقبل، ولأنه لا شيء يضاهي تأثير الأزمة المالية سوى دخول أول رئيس أسود البيت الأبيض، فقد كان هناك أمل كما كانت ميشيل أوباما ملهمة للعديد من مصممي التفاحة الكبيرة، منهم التايواني جايسون وو، البالغ من العمر 26 عاما، الذي قدم تشكيلة في متحف كل ما فيه يصرخ باسم ميشيل، خصوصا أنها لبست له عدة فساتين، وكان لها فضل كبير في شهرته، إلى جانب أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الأميركية.
جايسون اعترف بتأثير السيدة الأولى عليه، مشيرا إلى أن الفساتين السبعة الأولى كانت موجهة إليها، لكن فساتين السهرة كانت فيها نزعة فانتازية، تمثلت في الخصر المنخفض قليلا، والتصميمات المستوحاة من فساتين راقصات الباليه باستدارة تنوراتها.
وفي الوقت الذي حاول جايسون أن يعطي أفضل ما عنده فإن المصممة مونيك لويلر قدمت أزياء جميلة، لكنها تعمدت أن تخفي جمالها وكأنها محرجة، فقد غطت جسم عارضاتها بملابس من النايلون المطاطي الذي يبدو وكأنه قديم وممزق، ظهرت من فوقها فساتين جد أنيقة، استوحتها أيضا من راقصات فرقة الباليه الروسية، بعد أن أضفت عليها لمسات سريالية خفيفة. التشكيلة جاءت بعدد محدود لا يتعدى الـ12 مظهرا لتتماشى مع صغر المكان الذي اختارته للعرض.